[
بسم الله الرحمن الرحيم :
إن إساءة الظن بالعلماء والصالحين وغيرهم مما حرمه الإسلام،ونهى عنه،كما قال تعالى( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ).
ومما يؤسف له أن ظاهرة إساءة الظن بالمسلمين،ولا سيما بالعلماء والصالحين منهم،قد إنتشرت في زماننا الحاضر،وأصبحت آفة خطيرة تهدد الترابط والوحدة الداخلية بين أفراد المجتمع المسلم،وهذا مما يؤثر سلباً – ولا شك – على قوة المجتمع،وقدرته على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
ومما ينبغي الإنتباه إليه حول هذا الموضوع – الأسباب التي تحمل على سوء الظن وتدفع إليه فأقول:
أولاً:أسباب إساءة الظن:
هناك أسباب عديدة قد تحمل الإنسان على إساءة الظن بالآخرين،ومنهم العلماء والصالحين ومن هذه الأسباب:
1- الجهل:[/color]
فإن الجهل وعدم العلم بحقائق الأمور،وعدم فهم مقاصد الشريعة،ومناط الحكم،والنظر المعتبر عند الإجتهاد،كل هذا قد يجعل الإنسان بعيداً عن فهم حقائق الأمور،ومن ثم يتهم الآخرين بالنقص والعيب،ويسئ الظن بهم ويرميهم بالتهم والعظائم.
نظرات وتأملات من واقع الحياة:
ومن أوضح الصور على ذلك ما وقع من ذي الخويصرة مع النبي – صلى الله عليه وسلم – فإنه بسبب جهله وعدم إدراكه للحقائق أساء الظن بالنبي – صلى الله عليه وسلم -،ورماه بعدم العدل،وأي تهمة أبعد عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الجور وعدم العدل؟.
2- إتباع الهوى:
فإن إتباع الهوى يعمي ويصم،ويمنع الشخص من معرفة الحق واتباعه ويجعله لا يرى إلا ما أشرب من هواه،ولهذا فإن صاحب الهوى حينئذ لا يزن الأمور بميزان الشرع الدقيق،بل بميزان الهوى،فيسئ الظن بمن يخالفه ويرميه بما هو برئ منه،ولا يحاول تفهم وجهة نظر الآخرين،أو حتى إلتماس المعازير لهم،ولا يراجع نفسه فيما ذهب إليه.
3- العجب والغرور:
فإن بعض الناس قد يحس بنفسه جداً،ويغتر،ويعجب بنفسه،فيرى نفسه دائماً على حق والآخرين على باطل،ويزكي نفسه،ويحتقر الآخرين،ويرى نفسه فقط على حق،ومن عداه في ضلال مبين،وهناك أسباب أخرى لإساءة الظن غير ما ذكر.
ثانياً:صور ونماذج لسوء الظن ومناقشتها:
تتعدد صور إساءة الظن بالعلماء والصالحين والدعاة،ومن ذلك:
إعتبار من يؤلف القلوب بترك المستحبات ضالاً: فإن بعض الناس قد يحاول تأليف القلوب،وجمع النفوس لأجل المصلحة العامة،وحينئذ فقد يترك بعض الأشياء المستحبة تحصيلاً لهذه المصلحة العامة،فيأتي من يسئ به الظن،ويتهمه بالضلالة،وهذا ما فعله ذو الخويصرة مع النبي صلى الله عليه وسلم،فإنه صلى الله عليه وسلم ترك إعطاء الفقراء وهو مستحب،وأعطى هؤلاء الأغنياء لما رآه منفعة راجحة في تأليف قلوبهم.
قال إبن تيمية رحمه الله تعالى:"ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف هذه القلوب بترك هذه المستحبات،لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل هذا،كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم،تغيير بناء البيت،لما رأى في إبقائه من تأليف القلوب،وكما أنكر إبن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر،ثم صلى خلفه متمماً وقال:"الخلاف شر".
غير أن هناك أمراً مهماً ينبغي الإنتباه له،وهو أنه ليس لكل إنسان الحق في الإجتهاد،وتقدير المصلحة والمفسدة،وإنما ذلك الحق خالص للعلماء فقط وأهل العلم،فهم الذين لهم الحق في الإجتهاد وتقدير المصالح والمفاسد.
إعتبار الكلام في الرقائق خرافة: فإن بعض الناس إذا سمعوا من يتكلم في الرقائق،رموه بالخرافة والسطحية والسذاجة،فما السبب في ذلك؟.
السبب أنهم رأوا أكثر من يتكلم في هذه المسائل من الصوفية وجهلة القصاص،فلما رأوا من الدعاة من يتكلم في ذلك،عمموا الحكم،وسحبوه حتى على أهل العلم الذين يتكلمون في الرقائق ويريدون ترقيق قلوب العامة وطلبة العلم،ولو أن هؤلاء الجهال وزنوا الأمر بميزان الشريعة لكان لهم موقف آخر،ولو أنهم تأملوا في حال السلف وما كانوا عليه من إهتمام بالرقائق والأدب،ما قالوا مثل هذا الكلام،فإن السلف قد ألف كثير منهم كتباً في الزهد والأدب والرقائق،ومنهم الإمام أحمد وإبن المبارك وغيرهم،بل قد قال بعض السلف:"حديث يرق له قلبي أحب إلي من مائة قضية من قضايا شريح" قال إبن الجوزي:" وإنما قال هذا لأن رقة القلوب مقصودة ولها أسباب".
إتهام أنصار التأني بالجبن: فإن كثيراً من الجهال يتهم من يدعون إلى التأني بالجبن والضعف،وذلك لأن البعض يرى الشجاعة هي مواجهة الخصوم بالقوة،ولو كان ذلك مخالفاً للشريعة،ولو كان في ذلك التلف والعطب،وهلاك الدعوة وأنصارها،فهذه هي الشجاعة والإقدام عند البعض،وفات هؤلاء أن الشريعة قد وضعت لكل حال ومقام ووقت يناسبه من التشريعات والأحكام،وأن الإسلام وسط بين طرفي نقيض،فلا يجوز التأخر عن المواجهة إذا كان الشرع يوجبها،وكذلك لا يجوز التعجل بالمواجهة إذا كان الشرع يمنع من ذلك،والعبرة في ذلك بإجتهاد أهل العلم الصالحين،فهم أصحاب الفتوى والحكم في ذلك.
إتهام بعض العلماء والدعاة بالعمالة: وهذا كذلك من أساء الظن المحرم،إذ إن بعض الناس من فرط جهله يتهم بعض العلماء والدعاة بأنهم عملاء للسلطة،أو أنهم مطايا للسلطان،وأنهم علماء سلطة،أو غير ذلك من التهم الباطلة،وهذا أمر مشاهد واقع في أكثر بلاد المسلمين،وذلك لمجرد أن العالم إلتمس عذراً للسلطان في أمر ما،أو نهى عن الخروج
عليه،أو أفتى بأمر لم يوافق هوى المخالفين له،فإعتبروا ذلك منه تزلفاً للسلطان وعمالة له،وغير ذلك من التهم الباطلة،وفات هؤلاء أن العبرة كلها إنما تكون بمدى موافقة رأي العالم وإجتهاده للدليل وللنص،فإن كان معه نص فموقفه مشروع،وإلا فلا،وليس العبرة بمجرد موافقة أهواء الناس،فإن الله-تعالى- قال وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ).
إعتبار المداراة نفاقاً: فإن العالم أو الصالح قد يداري أحياناً ببذل الدنيا لصالح الدين،وبنية حسنة،فيأتي من يتهمه بالنفاق والمداهنة،وذلك ممن لا يفرق بين المداهنة المداراة،فإن المداهنة هي بذل الدين لأجل الدنيا،والمداراة بذل الدنيا لصالح الدين أو لصالح الدين والدنيا أو الدنيا كما ذكر إبن حجر وعياض وغيرهما.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد إستعمل المداراة،فإنه إستأذن عليه رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم،"بئس أخو العشيرة وبئس إبن العشيرة"فلما جلس إنبسط له النبي صلى الله عليه وسلم،فلما إنصرف أبدت عائشة تعجبها من فعله صلى الله عليه وسلم وكيف ذم الرجل ثم تبسم له وإنبسط،فقال لها:"إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس إتقاء شره".
فيجب على هؤلاء الناقدين أن يفرقوا أولاً بين الرياء والمداهنة وبين المدارة والمصالحة،فبينهما فرق كبير في حقيقة الأمر،ولو أنهم أحسنوا ذلك ما أساءوا الظن بالعلماء وغيرهم.
وهناك صور أخرى لإساءة الظن بالعلماء والصالحين،لم أذكرها لضيق المقام،والواجب على المسلم أن يتجنب جميع هذه الصور،فكلها محرمة جداً غير جائزة في دين الله تعالى.
ثالثاً:أثر تفشي هذه الآفة في المجتمع:
إن إساءة الظن بالعلماء والصالحين لها أخطر الآثار على الفرد والمجتمع،فمن ذلك:
أنه يدفع صاحبه إلى تتبع العورات وإلتماس الزلات والتنقيب عن الهفوات،وهذا محرم جداً وقد نهى الإسلام عن تتبع العورات وإلتماس الزلات.
أنه يوقع صاحبه في الغيبة والنميمة،ونهش أعراض الآخرين.
زرع الشقاق والإحن والعداوات بين أفراد المجتمع المسلم،وقطع حبال الأخوة والمودة وغير ذلك من الآثار السيئة.
رابعاً:العلاج:
إن من أنفع وسائل العلاج لهذه الآفة الخطيرة أموراً منها:
ترك تتبع العورات،وإلتماس الزلات:فإن هذا الفعل من علامات النفاق،والتي يجب على المسلم تركها والبعد عنها.
إحسان الظن بالناس: فإن هذا مما يرضي الله تعالى،ومما يعين على ذلك العلم بشدة تحريم إساءة الظن،وقد قال عمر رضي الله عنه:"ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً،وأنت تجد لها في الخير محملاً".
إلتماس المعاذير للناس:وأولى الناس بأن تلتمس لهم المعاذير هم العلماء والصالحون،فالواجب على المرء إذا بلغته فتوى عن عالم معين مثلاً وإستغربها أن يلتمس له العذر ويحسن به الظن،فلربما كان قد وقف على نص في المسألة لم يصل لغيره،ونحو ذلك.