ممدوح عدوان اكبر بكثير من كتابات مجتزئة او بحجوم صغيرة في هذه الصحيفة او تلك ، فهو منذ بداياته في مطلع الستينات بدأ كبيرا ، بقلمه، بافكاره، بمشاريعه، بمحبته لمهنة الكتابة وعشقه لمغامرة القلم، امضى الرجل"الصاخب الهادي" اكثر من اربعين سنة يحارب بقلمه من خلال الابداع في الشعر والنثر والدراما بشقيها المسرحي والتلفازي، الى جانب ماقدمه من ترجمات كانت لها كبير الصدى في المنابر الثقافية، وهو قبل هذا وذاك كثير الحضور في الملتقيات والمهرجانات والندوات والحوارات الثقافية على امتداد خارطة الابداع المعاصر .
* وصفه الشاعر احمد المصلح بالانسان الرائع والمتحدث اللبق الممتلىء بالثقافة ، وقال عنه (انه رمز من رموز ادبية قليلة نذرت عمرها لمستقبل المشروع الحضاري والثقافي فكرا وممارسة وابداعا في الآن نفسه)..
اصدر سبعة عشرة مجموعة شعرية الى جانب مجموعة جديدة ولدت عند ساعات رحيل صاحبها حملت عنوان (المكابدات) وكأني به قد رسم مع نفسه مكابدات الموت من خلال عنوانها.
*اطل علينا في الستينات بمجموعته الاولى (الظل الاخضر) ليبدأ مشواره الادبي الذي تحول الى مشروع ثقافي متكامل مع مجاميع جديدة اطلت تباعا تحمل معاناة نفس نقية لمحارب جند قلمه لمقاتلة الشر والتخلف والفساد والجهل والغفوة التي تحولت الى نوم عميق في ظل انظمة عز عليها الصحو، وابت ان تتباهى بولادة فجر في الصباحات الجديدة
* اثرى المكتبة الثقافية بمجاميعه (تلويحة الايدي المتعبة/الدماء تدق النوافذ/ يأنفونك فأنفر /امي تطارد قاتلها/لابد من التفاصيل / للخوف كل الزمان/ اقبل الزمن المستحيل/ هذا انا ايضا/الليل الذي يسكنني/ لا دروب الى روما/ ابدا الى المنافى/طيران نحو الجنون / وعليك تتكئ الحياة / كتابة الموت/ للريح ذاكرة اخرى /مكابدات).
* وله ايضا ثلاث وعشرون مسرحية منها (محاكمة الرجل الذي لم يحارب/كيف تركت السيف /هاملت يستيقظ متأخرا / زيارة الملكة/ سفربرلك/الغول/ ايام الجوع).
وكذلك اثنين وعشرين كتابا مترجما عن اللغة الانكليزية منها (الشاعر في المسرح/ تقرير الى غريكو/ سيرة ذاتية/ كازانتزاليس / المهابهارتا/ بيتربروك/ الشعر ونهايات القرن/اوكتافيوباز/ ديريك والكوت/ جورج اوريل).
كما اصدر اربعة كتب نثرية اخرها رواية (اعدائي) وهي الثانية بعد الرواية التي اصدرها في مطلع السبعينيات بعنوان (الابتر) وقد عرف ناشر روايته الاخيرة اعدائي على الغلاف الخارجي الاخير بانها رواية تنبض باحداث وتفاصيل فترة الحكم العثماني لحظة انهياره، وكذلك اصداء التحول الخطير على ابواب الحرب العالمية الاولى.. وثمة صراع عنيف ودموي بين قوميات وعقليات ومشارب واهواء وانظمة حياة وكذلك بين شبكات تجسس، كلها تسعى الى تقطيع اوصال الدولة العثمانية او الرجل المريض. واذا كان تقديم الناشر للرواية يشير الى الفضاء الزمني لها وتقاطعاته فان الفضاء المكاني للرواية يشمل بلاد سوريا الطبيعية دمشق وبيروت وعمان والقدس بشكل رئيس بالاضافة الى اشارات تمتد الى الحجاز والعراق ومصر بشكل ثانوي، وبالتالي فان الحدث الروائي كما يذهب الناقد احمد المصلح يتقاطع بشخوصه الرئيسة والثانوية على هذه الارضية الزمانية والمكانية ضمن شبكة علاقات معقدة وتناحرية في معظمها، تديرها شخصيتان رئيستان هما جمال باشا التركي وعشيقته اليهودية سارة في تقاطع مع شخصية رئيسة ثالثة هي عارف ابراهيم ابن مدينة نابلس الفلسطينية، رئيس البوليس الدولي ببيروت ثم رئيس شرطة القدس لاحقا.
المحصلة الاخيرة، ان الرواية جاءت مسكونة بالتاريخ على الرغم من انها ليست كتابا في التاريخ كوقائع حدثت في الزمان والمكان.
كما ان ممدوح عدوان ليس مؤرخا وان كان قد استحضر بعض الاحداث التاريخية، مع افتراض بان الراوي قد يكون الكاتب متنكرا، فقد حاول ممدوح عدوان ان تكون روايته الاخيرة (اعدائي) الصادرة في بيروت في (505) صفحة من القطع الكبير موزعة على (34) فصلا، رواية تقارب التاريخ وتعلو عليه من خلال توظيفه لنصوص الموروث الشعبي الحكائي اعتمادا على السيرة الهلالية وحكاياتها، على الرغم من الجدل الكبير الذي دار على صفحات الصحف والمجلات وفي الندوات التلفزيونية حول (مسلسل الزير سالم) التـــي قامـــت احـــــداثه على (الفـــــعل) و(الصراع) بين قبيلتين هما (بنوتغلب وبنوبكر) وقد طرح المؤلف من خلال المسلسل مجموعة من الاسئلة الخطيرة والكبيرة مثل " مامعنى ان تدوم الحرب اربعين عاما؟ لماذا يسعى الزير سالم الى الثأر لاخيه كليب من جساس دون ان يحاول قتل جساس نفسه؟ لماذا تحقد الجليلة على الزير وتريد التخلص منه؟ هل كان كليب احمقا لكي تتلاعب به الجليلة وتجعله يرسل اخاه المرة تلو الاخرى في مؤامرات مميتة؟ لماذا اوقعت البسوس هذه الفتنة؟ ما الذي يمكن ان يحدث للزير سالم وهو يقتل اعز الناس الى قلبه وهل كان اجدادنا العرب حمقى حقا لكي يقتلوا ملكا مقابل ناقة، او لكي يخوضوا حربا تهدر منها دماء غزيرة من اجل سباق بين فرسين –داحس والغبراء ؟"
لقد تبنى ممدوح عدوان رأي شوقي بغدادي في احداث المسلسل عندما قال " ان المؤلف اراد تنبيه العرب في عصرنا الحالي الى الواقع البائس الذي يعيشون فيه في نزاعات شبيهة بايام الجاهلية، وان أحداث المسلسل تكشف عورات التاريخ البعيد، لكي تتمكن الامة في زمانها الراهن من تطوير الانجازات والتخلص من العيوب وتأسيس ارضية معروفة صلبة باتجاه التطور والتقدم المستقبليين.
وممدوح عدوان لم يكن باحثا متخصصا في حياة القبائل كما هو الحال في قبيلتي بكر وحرب البسوس التي حدثت في ارض الجزيرة في القرن السادس من خلال شخصية الزير سالم، بل هو ابعد من ذلك فقد كان تواقا ان يجوب احداثا كبار، وان ينقل من التاريخ جوهره كما تؤكد مسرحية (الغول) التي تدور احداثهاعن جمال باشا السفاح وفيها محاولة جادة لتحليل شخصية (الطاغية) مع تقدم الوجه الثاني من المرحلة التاريخية (السلطة المخورة المتهاوية).
يقول ممدوح عدوان: "اكثر من ثلاثين سنة وانا اسعى لجمع مايمكن جمعه من وثائق ومعلومات عن بدايات القرن العشرين وحتى نهاية الحرب العالمية الاولى، جمعت مذكرات وذكريات وقصائد وحكايات، وصرت اتسابق مع الزمن للوصول الى العجائز الذين عاشوا تلك المرحلة قبل ان يموتوا او يصيبهم الخرف وفقدان الذاكرة، ومسحت سوريا من اقصاها الى اقصاها، ثم الى المذكرات المنشورة للذين عاشوا الفترة او شاركوا في ثورة الشريف حسين او ساروا مع جيش الامير فيصل الى دمشق، او الذين فروا والتحقوا بجيش الامير عبدالله في شرقي الاردن بعد انقضاض الفرنسيين على سوريا واخراج الملك فيصل منها ،بعد ذلك انتقلت الى ماكتب في التاريخ عن بلاد الشام في تلك الفترة، ثم ذهبت الى تركيا وبحثت في مكتبات اسطنبول وارشيف مكتباتها وصحافة تلك الفترة، وخرجت من هذا كله بثلاثة اعمال، مسرحيتي "ايام الجوع والفول ورواية اعدائي، ومن اجل هذه الرواية ذهبت الى واشنطن لمدة ثلاثة اشهر لجمع مايمكن جمعه عن اليهود والعرب في تلك الفترة .." ويميل احمد المصلح في نقده لرواية (اعدائي) الى التأويل، اذ يرى ان العرب المتناثرين على كيانات عربية (قطرية) بعد معاهدة سايكس بيكو، هم الصورة الاقرب الى الجمع الهلالي الجديد، مثلما ان صراعاتهم الداخلية منذ انتهاء الرواية حتى الان هي اعادة انتاج للملحمة الهلالية، ولكن ضمن انموذجها القبلي المأساوي القديم.
وكان ممدوح عدوان يبذل قصارى جهده لكتابة الجزئين الثاني والثالث من روايته (اعدائي) ولكن الاجل كان اسرع من اكمال مشروعه الذي ابتدأ في مطلع الستينات، وهي نقطة البداية للانطلاق نحو افق الكتابة الذي صار يتسع حتى صار بحجم الارض والانسان